" الإرهابي.. "
أدهم وهيب مطر
فجأة،ودون سابق إنذار، أو أية إشاراتٍ تحذيرية، ينفجر شيءٌ في داخلي،في دماغي،في كياني،في محيطي ، هكذا،بكل بساطةٍ وسخرية و سذاجة ، ينفجر ذلك السؤال القنبلة ؟..
سمعتُ من تجمهر حولي يهمسون فيما بينهم بعد أن رؤوني وأنا أتهاوى ، بأن الذي زرعها في رأسي إنما هو
" ذلك الإرهابي " المحترف الذي يهوى زرع الأسئلة المفخخة في رؤوس بعض الناس .
تناثرت أجزاء أفكاري ، و تطايرت فوق الأرصفة ، على أعمدة النور ، و التصقت بحجارة الجدران الأثرية ، هرع أصحاب المحلات المتُخمين نحوي ليروا كيف ينتفض جسدي على الرصيف وكيف يتحوّل نزيف رأسي إلى مادة بيضاء تنساب فوق الإسفلت و تذوب في بالوعة الصرف الصحي للمدينة .
أحاول فيما تبقّى لي من تمَسُّكٍ بالحياة أن أرى هؤلاء الناس الشّامتين ، والذين أصبحت أ شكا لهم رخوية ، وبدأت أرى وجوههم مطاطية عجيبة التفاصيل ، و آذانهم طويلة ، و عيونهم بلهاء و أجسادهم انتفخت كالخنازير ، و ذيولها القصيرة ، أستطيع تمييزها بوضوح ، و أسنانهم كأسنان الجرذان ، لكنهم كانوا بلا أدمغة ، يحُدِّقون فيَّ ببلاهة ، و أنا أنتفض ، و أتلاشى ، و أتعجَّب،هاهو ذا الإرهابي الذي فجر رأسي يقترب ، يقف بين الجمع،ينظر إلي ساخراً وعيناه تقدحان شرراً ، يمسح يديه المُلطَّختين بالسائل الأبيض ، ثم يغادر ني بهدوء عجيب ، بعد أن تأكد بأنه قد أفلح في فتح رأسي ، و يدهشني أنه لا أحد يعتقله ، لماذا لا يلقون القبض عليه ؟؟ لماذا يتركونه حراً، يمشي الخيلاء بين الشوارع الراّقية ، و التي بدأت تكتظّ بشتى أنواع الناس من الذين انتفخت أجسادهم ، و تطاولت آذانهم ، و قرونهم ليروا الضحية الجديدة بلا مبالاة ، يبدو أنهم قد اعتادوا على رؤية بعض الذين ينفجرون فجأة في وسط الشارع،لكن لماذا لا يأتيهم الدور ؟؟ لماذا بعض الناس فقط من تضيق عليهم أجسادهم فجأة ، وينفجرون إما جنونا ،أوانتحارا ؟؟ هل لأن أدمغتهم فارغة أم لأن تلك الأدمغة لا يؤثر بها سلاح الإرهابي الذي يعرف كيف ينتقي ضحاياه ، وكيف يضع سؤاله القنبلة ، و كيف ومتى يبدأ الانفجار ..
تحلّق حولي رجال الشرطة ، و الإسعاف ، يحاولون نجدتي ، و إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، ياللرعب كيف سأستطيع إعادة أفكاري التي ساحت في بلاليع المدينة ؟؟ كيف أعيد التقاطها ، وجمعها ؟؟
هل يستطيع الأطباء ذلك؟ هل يستطيع الطب الحديث أن يزرع لي أفكارا جديدة؟ كيف ؟؟ وممن ؟؟ وهل ستنطبق على حجمي ، ومقدار تفاعلي ؟؟ وهل إذا نجحوا في ذلك سأبقى أنا،أنا ؟؟ أم سأصبح إنسانا آخر ؟؟ أم ، أم ؟؟
يرفعونني على نقّالة الإسعاف ، أحاول تمييز رجل البوليس الواقف بقربي ، و هو يهمُّ بالتقاط بصمات ، أو أدلّة ُأدقّق في وجه الرجل ، أدقّق أكثر ، يا للهول ، فلهذا الرجل نفس تفاصيل وجهي ؟؟ لقد تقمّص وجهي ؟؟ كيف يحدث هذا ؟؟
يدخلونني سيارة الإسعاف ، تبدو طويلة ، طويلة ، كنفق بلا نهاية ، و يتابع الطبيب لفّ الأربطة حول رأسي محاولاً وقف نزيف ذلك السيل من الأفكار البيضاء ، أنتفض بألم ، أصرخ ، أتمتم بكلمات غير مفهومة ، أشعر بها تخرج من فوهة ما في وجهي ، و لها صوت غريب ، كصوت بوق مكسور في قبو تحت الأرض ، أو كصفارة إنذار حادة الصوت و مرعبة ، فوق بناء عال، ماذا أحاول أن أقول ؟؟.
أُحدّق في ذلك الطبيب ، رغم أن عيني كانتا مغمضتين ، إلا أنني و منذ أن انفجر رأسي بذلك السؤال القنبلة أصبحت أرى من خلال جفوني ، و أستطيع رؤية أدمغة الناس و أفكارهم شفافة كأحواض الأسماك ؟؟.
يا لهذا الذي يحدث،الطبيب أيضاً له وجهي ، وتقاسيمه المتطابقة ، لكنه لم يلحظ ذلك لأن وجهي قد تغيرت تضاريسه .
تزعق صافرة الإنذار بداخلي ثانية ، و ذلك الإرهابي يطل بوجهه الغريب عبر نافذة سيارة الإسعاف التي انطلقت بسرعة لمحاولة إنقاذ رأسي المنفجرة ، أراه من خلال عيني المغمضتين ، يقترب مني كيف دخل السيارة المسرعة ؟؟ يقترب أكثر ، كيف لا يشعر الطبيب بوجوده ؟؟ هل هوغير مرئي ؟ يتسلل نحوي ، و ُيقَرّب فمه الذي يشبه جرس الكنيسة ، و يهمس في أذني ، لكن سرعان ما يتحول صوته إلى صفير حاد ، و كأنه تقمّص كل صافرات القطارات في العالم :
- " إني أضع أسئلتي القنابل في رؤوس من أحبهم ؟؟ لأنهم بعد الإنفجار سيدركون الحقيقة الكبرى ثم انسلَّ بهدوء عبر النافذة المغلقة للسيارة المسرعة ، و تلاشى .
لم يلحظ الطبيب ذلك ، وضع سماعته على رأسي النازف ، لكنه سرعان ما نزعها عن أذنيه كمن أصابته صدمة قوية ، تراهُ سمع صفير القطارات المتعالي داخل رأسي ؟ تراهُ سمع صوت بوق الإنذار الأجشّ الذي يبعث على القشعريرة ، و لا يزال ينعق في ذلك النفق المظلم ؟؟
لقد اختلطت الأمور على هذا الطبيب الذي يتقمصه وجهي ، التفت سائق الإسعاف إلى الرجل ليعلمه بوصولنا للمشفى ، يا للغرابة ، حتى سائق سيارة الإسعاف له وجهي تماماً ، ولم يفاجئني الأمر بقدر ما أثار استغرابي .
نظرت إلى أرصفة الشوارع ، كانت كل بلاليع المدينة قد طافت بسائل أبيض غريب له رائحة الربيع ، و لم يعرف عمال البلدية من أين جاء ، و كيف كلما حاولوا شفطه ، و ضخّه بالآلات كلما ازداد .
عمال البلدية كلهم ، كانت لهم وجوه كوجهي ، غريب حقاً ما يحدث،حتى داخل المشفى و في السراديب الطويلة التي أخذوني خلالها ، كان كل من يعبر بجانبي و يراني ، يتقمصه وجهي هل هذه هلوسة النهاية ؟؟ أم ماذا ؟؟ .
لا يزال صفير القطارات يتزاحم داخل رأسي المنفجر ، و لا تزال آثار السؤال القنبلة تملأ تلافيف دماغي الذي لم يتوقف نزيفه الأبيض بعد ، حتى أنه بدأ يتسرّب على بلاط المشفى ، و المعدات الطبية القريبة ، هذا السائل الربيعي الرائحة ، أتعجّب!! أين كنت أحتفظ بتلك الكمية الهائلة التي تتكاثر تلقائياً كلما رآها إنسان بعينيه ؟؟ وانتابني شعور جديد ، سرعان ما تحول إلى سؤال منفجر آخر ، " ماذا لو طافت المدينة بهذا السائل ؟؟" إذ لا يعقل أن يمشي الناس بعيون مغمضة؟ لكنني أتعجب من تلك المخلوقات التي تشبه البشر ، و التي لها أشكال غريبة و أجساد خنازير و ترتدي الثياب الحريرية ، و الفرو ، و الجواهر ، كيف لم تتغير ؟؟ يبدو أنها تمتلك نوعا من المناعة ضد هذه المادة فهم وحدهم من يسير في الشوارع بعيونٍ مفتوحة غير آبهين بطوفان ذلك السائل الأبيض ، بل و ينتعلون أحذية عالية الساق ، تشبه الأحذية العسكرية الثقيلة ، و يهزُّون ذيولهم القصيرة و آذانهم المفلطحة مفتخرين بأنهم قد وجدوا الحل الأمثل للتخلص من ذلك السائل الذي يُصيب من يراه بعدوى الانفجار .
وضعوني في المصعد الكبير ليتم نقلي إلى غرفة العمليات ، بجانبي أيضا سرير عليه بقايا رجل ، وقد انفجر رأسه مثلي و لم تزل تتدفّق منه نفس المادة البيضاء ، قالوا إنه طالب جامعي .
حدّقتُ فيه عبر نظرات متراقصة من عينيّ المغلقتين ، لديه وجهي أيضا ؟؟ لم أكترث هذه المرة بقدر ما دهشت حين نظرت إلى الممرضة الواقفة بقربي ،والتي تضغط بيدها على مكان النزيف الأبيض إنها تحمل وجهي أيضا؟؟واكتشفت أمراً مُثيراً ، " إن كل من ينظر إلي ، تتغير ملامحه فورا ًويتقمّصه وجهي دون أن يدري هو ذلك " ؟؟
صافرات الإنذار تزداد قوة،والأبواق المكسورة التي لا تزال تنعق تحت أنفاق المدينة،تتمرّد على السكون أكثر،و تمُزّق هدوء الرؤوس الراكدة،أشباه البشر،أبدوا انزعاجهم ، رغم أن لديهم مناعة ضد هذه الأصوات ، فهم وحتى بوجود آذانهم الطويلة المفلطحة ، إلا أنهم صمٌّ كالأفاعي وقد اعتقدوا بأنّ زلزالاً ما وشيك الحدوث جراء اهتزازات غامضة تحدث تحت أنفاق المدينة .
أعلنت الطوارئ في المشفى ، فقد ازدادت حالات الإسعاف المماثلة في الغرف المجاورة،و في المشافي القريبة،واختلط الأمر بين المصابين بانفجارات في رؤوسهم ، و بين الأطباء و الممرضات فكلهم يتقمّصون نفس الوجه،وجهي،ولا تزال رؤوس أولئك المصابين تنزف مادة بيضاء لها رائحة الربيع يتغير وجه كل من يراها ، أو يلمسها ، أو يشمّ رائحتها ، و لا تزال في ازدياد .
تم عرض الحدث الغريب على شاشات التلفاز ، و عقدت ندوات و محاضرات في شتى أرجاء المدينة،بعضها يحذر
و بعضها يصف و يطمئن ، و المدهش في الأمر ، أنه لا أحد قد طالب بالقبض على ذلك الإرهابي الذي كان يحضر كل تلك المؤتمرات ، وفي أحدها وقف يحاضرو يفلسف ويدافع عما يقوم به ، شارحاً أنه قد ينتقي عاملا في فرن أو مطعم ، أو مقهى ليمنحه شرف أن يكون أحد ضحاياه على أن يختار أستاذا في الجامعة،أو تاجرا كبيرا ، أو صاحب فندق،لأنه يعرف تماما البشر الحقيقيين من أشباه البشر الخنازير ، و أعلن أنه سيستمر في عمله هذا حتى ساعة الحقيقة الكبرى التي لن يحظى بها إلا ضحايا قنابله الخالدون ، ثم انسلّ بهدوء مثير كعادته تاركاً القاعات كلها تضجُّ بتصفيقٍ حادّ من أناس كانوا ضحاياه ، و جميعهم يحملون وجوهاً مطابقة لوجهي،أما من أسماهم بأشباه البشر،فكانوا يكتفون بالاختباء في ظل مقاعد الضحايا، وقد حلّوا ربطات أعناقهم الثخينة، ونكّسوا آذانهم الطويلة،وأخفوا قرونهم تحت قبعاتهم الفاخرة المستوردة .
في غرفة عمليات المشفى ، مَدّدوني ، بعد أن قيَّدوا جسدي المرتعش ، و أوردتي إلى أجهزة معقدة كثيرة و أزاحوا الأربطة الجلدية التي تشبه السياط ، و التي كانت تُثبّت رأسي الذي لما يزل ينزف سائلا أبيض .
دخل جرّاحٌ كبير،رهيب الهيئة،مُلثّم الوجه،ثم فتح النوافذ ، و أضاء الأنوار على غير العادة الطبية في غرف العمليات و خاطب بلهجةٍ صارمة أعضاء الفريق الطبي الذين يتقمّصون نسخاً من وجهي :
- " يجب أن يسمع أهل المدينة هذا الصفير الصادر من هذه الرأس المفتوحة ، يجب أن تدخل صافرات الإنذار كل نوافذ البيوت " ، ثم اقترب مني وحدّق مليّاً بوجهي ، و همس بصوتٍ يُشبه تراتيل الكنائس :
- " أنا الذي سأشفيك الآن ، بأن أضع في رأسك قنبلة جديدة ليتعمَّد من نزيفها أهل المدينة ثانية"
لقد عرفته ، إنه ذلك الإرهابي الصارم ، فلديه قدرة عجيبة على تغيير صوته كما يريد ؟؟ ثم و قبل أن يذوب في فراغ المكان ، همس في أذني نغمتي اعتراف من فمه الجرس ، و تناثر وسط اندهاش الحضور .
- لم يكن ذلك الإرهابي سوى "الزمن "؟؟
- و لم يكن السؤال القنبلة إلا " ماذا أنا" ؟؟
- و القنبلة الجديدة التي بت أترقب بشوق لحظة انفجارها في رأسي ثانية " حرية .. حرية